تحّول الفتى أحمد سناكرة (19 عاما) الى أسطورة هزمت الجيش الذي لا يقهر، ليخرج بعد ثلاثة أيام من حصاره بين ركام المقاطعة في نابلس، مثل طائر فينيق فلسطيني.
بدت معركته مع الجوع والعطش وجرحه الطازج منذ أيام، لا تذكر مقابل مواجهة جيش مجهز بكل عتاد القتل والدمار، دبابة"الميركافا" على الأرض، والأباتشي بالسماء، وجسد أحمد الأسمر النحيف بينهما، يراهن على الصمود ولو كان الثمن حياته.
من فجر الأربعاء،، 19 تموز، الى الحادية عشرة من مساء الجمعة 21 تموز،، أصبح سناكرة حديث الناس، فالمخيم نعاه عبر مكبرات الصوت، وتحول بيته الى مزار للمعزين، يبكون وينتحبون فتى ينظر إليه أهالي المخيم كمقاوم عنيد.
بعد يوم ونصف من الحصار أصبح العطش العدو رقم واحد لديه فهزمه عندما بات يجمع بوله في حذائه ويشربه، أما الجوع فأستعان عليه بورق النباتات المر.
وما بين الجوع والعطش ظل يتيمم ويصلي، وتتهدج أنفاسه بالقرآن عندما تتحالف القذائف مع الموت وعتمة الليل لتنال منه.
مساء الخميس كان أحمد المعروف بـ"سنكور"لا يستطيع النظر بعيونه التي تعاني من بقايا شظايا إصابة قديمة، فبدأ بتقطيرهما ببوله حتى يطرد التراب الذي ملأ مقلتيه.
أما عندما ملأ التراب إذنيه بعد دفن نفسه في قبر إختياري، بدأ بنزع الضمادات من على أصابعه التي بترت منذ وقت قريب، وحشاها في إذنيه حتى لا يدخل مزيدا من التراب إليهما.
"الحمد لله طلعت وقهرتهم"، تلك كلمات أحمد الذي تطارده قوات الإحتلال منذ ثلاث سنوات، مخلفة عشر إصابات في أنحاء متفرقة من جسده، أو كما يحلو له أن يسميها" تذكارات".
يروي أحمد قصة حصاره في بيت عائلته الضيق في مخيم بلاطة، البيت الذي تحول طيلة ثلاثة أيام الى بيت للعزاء حيث ظن الجميع أن الفتى إن لم يستشهد من القذائف، فإنه أكيد قضى نحبه تحت الركام.
وكان" سنكور" من بين المطاردين المتواجدين في المقاطعة، فجر الأربعاء الفائت، عندما حاصرتهم قوات كبيرة من جيش الإحتلال، وهدمت على مدار ثلاثة أيام 1000 متر مربع من المقاطعة والمباني الحكومية المجاورة لها، ورفض أحمد تسليم نفسه مثل العشرات من المطاردين ورجال الأمن، وفضل الهرب بإتجاه جبل الطور القريب من المكان.
هناك كان قد سبقه زوج شقيقته محمود الخطيب، وحسام بدرساوي، ومحمد أبو ليل، رآهم وهم يشتبكون مع قوات الإحتلال التي تمركزت بنقاط عسكرية كبيرة، "استشهدوا جميعا أمام عيني، وبعد أن أجهزوا عليهم بالرصاص اطلقوا قذائف" الأنيرجا" باتجاههم، فشّوهت معالم أجسادهم"، حسب ما قال سناكرة.
كان أحمد يراقب المنظر خلف إحدى صخور الجبل، فقرر التسلل عائدا الى المقاطعة التي كان يتنقل بين أقسامها وزنازينها تحت الأرض مثل طائر، يغير مخبأه كلما سمحت له الظروف أو اشتد القصف
يقول سناكرة" أصعب المواقف عندما أطلقوا علي كلب بوليسي، كنت حينها أختبأ بحفرة بنفق قديم، كان هناك بعض القضبان الحديدية الملقاة بين الحجارة الكبيرة، جذبت إحدى القضبان بكل قوتي عندها كان الكلب قد اقترب مني، فغرست قضيب الحديد في عينه لتخرج من أذنه، بعدها خفت أن يبدأ بالنباح أثر الضربة سيما أن هذه الكلاب مثبت على إذنيها لاسلكي لتستجيب لأوامر الضابط، فقمت بوضعه في حفرة المجاري التي أختبأ بها، ووضعت فوقه التراب والحجارة.
يقول" كانوا يطلقون ما بين 30 الى 40 قذيفة كل ساعة خارج وداخل المقاطعة".
وفي مواجهة أخرى مع الموت الذي يحاصره كان أحمد يختبأ فوق زنزانة إنهار جزء من سقفها ــ بفعل التفجيرات ــ وبقي معلق بقضيب حديد يتدلى من السقف الأساسي، عندما رأى من الجزء المنهار الجنود يبحثون عنه، رمى بإتجاههم حصاة صغيرة ليخدعهم بأن المكان آيل للسقوط، ليهرب الجنود الذين ابتلعوا الطعم مسرعين من المكان.
بعد أن إنتقل الى مكان آخر كان فيه بقايا حوض ماء فارغ والكثير من التراب والحجارة، جمع كل التراب بالحفرة بيده السليمة وبدأ يدفن نفسه، وغطى رأسه بكيس أسود ثقبه ليستطيع التنفس ونام هناك، عندما استيقظ كان الجنود يتنقلون فوقه وهم يمشطون المنطقة بعناية!!!!!.
ضابط العملية العسكرية لم يكتف بكل آلات القتل، فبدأ بالحرب النفسية" وبدأ يوجه له الكلام عبر مكبر الصوت، قائلا" إطلع يا أحمد .. يا سنكور، سلم حالك، بشربك ماء، وبطعميك كنافة، وبنخليك تشوف أمك، وباخذك على حوارة تتحمم وتشوف أصحابك في السجن".
كان يسمع الكلمات، لكن صور أصدقائه الشهداء والمعتقلين كانت تقفز أمام عينيه، وفي الخارج كانت "عبارة الله أكبر" التي صدحت بها حناجر المئات من أهالي المخيم الذين تجمهروا طيلة الأيام الثلاث على شارع يطل على المقاطعة تحيي فيه الأمل من جديد.
ظل سنكور على إتصال مع شقيقه المطلوب علاء ووالدته، كلما سمحت له الظروف، كان يهاتفهم لثواني ليطمئنهم أنه لا يزال حيا، ثم ينزع بطارية الهاتف الخلوي، خوفا من تبديدها أو من مسكه عبر إلتقاط الذبذبات.
الضابط المسؤول عن العملية العسكرية اتصل بوالدة أحمد مساء الأربعاء التي إمتنعت عن الطعام والشراب تضامنا مع إبنها، وقال لها" مش حرام عليكي إبنك يموت، تعالي نادي عليه يسلم نفسه، فقالت له أعطيني مهلة نصف ساعة".
كانت أم علاء سناكرة حسب قولها تريد أن تكسب مزيدا من الوقت في معركة أبنها، وعندما إتصلت مع أحمد كان جوابه هو الأول والأخير" لن أسلم نفسي، بدي أموت من القذائف أو من الجوع والعطش"، وأقسم عليها أن لا تأت إلى المقاطعة، وأن تدعو له فقط.
وعندما أتصل لها الضابط ثانية، أجابته الأم" إهدم المقاطعة إبني مش هناك، وما تتصل عليّ مرة ثانية".
بفشل العملية العسكرية في المقاطعة، تكون قوات الإحتلال قد سجلت فشلا أخر في القبض على"سنكور"، فقبل 20 يوما حاصرت قوات كبيرة من الآليات العسكرية والجنود المستشفى التخصصي حيث كان الفتى ذاته يجري عملية لكفه التي بترت أصابعها، هرب أحمد حينها بشراشف المستشفى وهو مخدر.
فشل فادح يبدو كصفعة على وجه جيش مدجج، أحترف إصطياد الفتية وقتل الأطفال، ولم يدر بخلده أن الفتية يحترفون بذات الوقت كسر أسطورته التي لا تقهر.